جديد الموقع
الشيخ أبو بكر القادري => سير مشايخ الطريقة ۞ أهم مشاكل التصوف المعاصر => مقالات في التصوف ۞ اختلاف الأمة المضحك المبكي => مقالات الشيخ القادري ۞ آداب المريدين => مؤلفات الشيخ القادري ۞ دعاء عظيم للحمل والذرية => فوائد ومجربات ۞ الصلاة الكبرى للجيلاني => مؤلفات الشيخ القادري ۞ الحرز الجامع والسيف المانع => مؤلفات الشيخ القادري ۞ درس تجربة => دروس ومحاضرات فيديو ۞ الوفاء لأهل العطاء => التعريف بشيوخ الطريقة ۞ تبصرة المسلمين وكفاية المحبين => مؤلفات الشيخ القادري ۞
الترجمة

الشيخ عبيد الله القادري

الكاتب: الشيخ مخلف العلي القادري

تاريخ النشر: 11-06-2022 القراءة: 20271

ترجمة الشيخ عبيد الله القادري الحسيني

شيخ الطريقة القادرية العلية

نسبه الشريف:

هو العارف بالله السيد الشريف الشيخ عبيد الله القادري الحسيني شيخ سجادة الطريقة القادرية العلية ونقيب السادة الأشراف، ابن العارف بالله السيد الشيخ أحمد القادري الحسيني شيخ سجادة الطريقة القادرية العلية (نقيب السادة الأشراف بالجزيرة الفراتية)، ابن السيد الشيخ محمد القادري الباقري الداري، ابن السيد خلف، ابن السيد الشريف الأمير عبد العلي، ابن السيد علي، ابن السيد عبد الرحمن، ابن السيد عبد الله، ابن السيد محمد، ابن السيد زيد، ابن السيد زين، ابن السيد شريف، ابن السيد الولي الكبير الشريف سلامة، ابن السيد الشريف غيث، ابن السيد الشريف غازي الحسيني، ابن الولي الكبير السيد الشريف قاسم الحسيني (الشهير بالأعرج)، ابن السيد يحيى، ابن السيد إسماعيل، ابن السيد هاشم، ابن السيد عبد الله، ابن السيد شريف، ابن السيد الأمير عجلان، ابن السيد علي، ابن السيد محمد، ابن السيد جعفر، ابن السيد الحسن الشجاع (قاضي دمشق)، ابن السيد عباس (نقيب النقباء)، ابن السيد الحسن (قاضي دمشق)، ابن السيد عباس (قاضي دمشق)، ابن السيد أبي الحسين علي (نقيب البصرة)، بابن السيـد الحسن (نقيب الدينور)، ابن السيد أبي الحسن الحسين (قتيل الجن)، ابن السيد علي (أبي الجن، لقب بذلك لشدة هيبته)، ابن السيد محمد، ابن السيد علي، ابن السيد الإمام إسماعيل الأكبر (الأعرج) t، ابن السيد الإمام جعفر الصادقu، ابن السيد الإمام محمد الباقر u، ابن السيد الإمام علي زين العابدين (السجاد)u ، ابن السيد الإمام السبط الشهيد أبي عبد الله الحسين u، ابن سيدنا أمير المؤمنين أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه، زوج الطاهرة النقية أم الآل سيدة نساء العالمين ونساء أهل الجنة السيدة البتول فاطمة الزهراء عليها من الله الرضا والسلام، بنت رسول رب العالمين وقائد الغر المحجلين سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.

ولادته ونشأته وزواجه وأولاده:

ولد الشيخ عبيد الله القادري في بلدة عامودا([1])، وذلك في سنة 1363للهجرة الموافق لعام 1944 للميلاد، حيث نشأ وترعرع في هذه البلدة المباركة، في ظل أسرة كريمة عرفت بالالتزام بتعاليم الدين، تحت كنف والده العارف بالله الشيخ أحمد الأخضر القادري، وأخيه الأكبر الشيخ سيد محمد القادري، الذي يكبره بخمس وعشرين سنة، وأخيه الشيخ عبد القهار الذي يكبره بقرابة العشر سنوات، وبرعاية والدته السيدة الشريفة غزالة بنت العارف بالله السيد الشريف الشيخ عثمان.

وكان والده الشيخ أحمد 1 شديداً بتربية أبنائه، فكان يأخذهم بالشدة والعزائم منذ نعومة أظفارهم، ولقد ظهرت على الشيخ عبيد الله معالم الصلاح منذ نعومة أظفاره فكان والده يقول عنه: إنَّ ابني هذا سيكون له شأنٌ عظيم.

وكان الشيخ عبيد لله1 منذ صغره يلازم مجلس والده، حتى أنه حدثنا أن والدته رحمها الله كان تحاول منعه من الخروج ليلاً لصغر سنه، فينتظر حتى تغيب عينها عنه فيخرج مسرعاً للتكية القادرية حيث مجلس والده، وكانت رحمها الله تضع له على الباب البصل والثوم لتمنعه من الخروج لأنه كان لا يحب رائحتهما، فهو لم يأكل البصل والثوم منذ صغره، وما إن شب وقوي ساعده حتى بدأ يميل إلى العزلة والخلوة والانقطاع إلى الله في سبيل تزكية النفس، والتقرب من الله عز وجل، وهذا الأمر قد يستغربه البعض، غير أنك لو رأيت البيئة التي كان يعيش فيها وعاينتها كما عايناها سوف تجد أن هذا الامر طبيعي، فمجلس والده لا يخلو من الذكر والعلم ليل نهار، ولا يكاد يخلو وقت من السنة إلا وفيه من يمارس الخلوات والرياضات، ومن شدة عناية والده به عزم على تزويجه صغيراً قبل أن يكمل اثنا عشر سنة، ولقد حدثني الشيخ 1بهذا فقال:

أرسل بطلبي والدي الشيخ أحمد 1 فلبيت طلبه ودخلت إليه في حجرته وكانت معه والدتي السيدة غزالة رحمها الله تعالى، فأمرني بالجلوس فجلست بين يديه، فقال لي يا ولدي: إني أوشكت على تلبية نداء ربي ولن أكمل عامي هذا معكم، وإني عزمت على تزويجك قبل موتي، فقلت له أطال الله بعمرك يا والدي، فقال لي: لن اكمل عامي معكم ولقد عزمت على تزويجك، فقلت له الأمر لك كما تريد ولن أرفض لك أمراً، فقال لي: وهل ترضى باختياري لك؟ فقلت له نعم ولا أخرج عن أمرك، فتبسم وفرح، فاختار لي زوجة تكبرني باثنا عشر سنة، وهي ابنة السيد الشريف الشيخ ظاهر القادري الحسيني، وهو ابن الشيخ محمد الكالي القادري شيخ الشيخ أحمد ووالد زوجته السيدة كلثوم والدة الشيخ سيد محمد القادري، فقال الشيخ عبيد الله: فاعترضت أمي على اختيار والدي لأنها تكبرني بكثير، فنظر إلي والدي! فقلت له يا سيدي لن أرضى بغيرها زوجة ولن أختار على اختيارك، فزوجه من السيدة الشريفة رحمها الله تعالى، وهي ام أولاده السبعة وبناته الثلاث.

ولقد شرفني الله تعالى وعاصرتها حقبة من الزمن فوالله كانت لنا خير أم وكانت للشيخ خير زوجة، وقليل أمثالها بين النساء رحمها الله تعالى، ثم تابع الشيخ 1 مسيرة حياته بصحبة هذه الزوجة الصالحة التي أعانته على دينه ودنياه، ولطالما رأينا من بركتها علينا، فطعام الخلوة كله كان من إعدادها وطبخها وتجهيزها، ويشهد الله كانت علينا شفيقة رحيمة رؤوفة، رحمها الله تعالى وأسكنها فسيح جناته، آمين.

ولقد أكرمه الله سبحانه وتعالى منها بسبعةٍ من الأولاد وثلاثٍ من البنات أَمَّا الأولاد فهم: السيد الشيخ هشام والسيد الشيخ الجنيد والسيد الشيخ معروف والسيد الشيخ عبد الواحد والسيد الشيخ أحمد والسيد الشيخ محمد والسيد الشيخ حسين، وكلهم والحمد لله يسيرون على نهج أبيهم وبين الحين والآخر يدخلون المجاهدات والرياضات يسعون في تزكية أولادهم، ولقد أكرمنا الله تعالى بصحبتهم لسنين طويلة ومازلنا نصحبهم، والله يشهد أننا عرفناهم على أحسن الأخلاق والتربية، كيف لا يكونون وهم أبناء هذا الرجل العظيم، أما البنات فكلهن من الصالحات التقيات العابدات، حفظهم الله تعالى أجمعين، وبارك بهم وبذريتهم.

سلوكه ومجاهداته:

بعد أن زوجه والده بدأ يحثه على المجاهدة والسلوك ويأخذه بأنواع الرياضات والخلوات، ولكن ما هي إلا شهور قليلة وانتقل والده الشيخ أحمد إلى الرفيق الأعلى، تاركاً وراءه نجله الشيخ عبيد الله وهو ابن الثانية عشر سنة، وكانت وفاة والده في عام 1954، ولكنه قبل وفاته أجازه بالطريقة القادرية إجازة شفهية، وأوكل تربيته وسلوكه وإجازته الخطية إلى أخيه العارف بالله الشيخ سيد محمد القادري، وبعد ذلك بفترة قصيرة حمل زاده وترك أهله وانقطع إلى الله أربعة عشر شهراً ثم عاد وقد ولد له السيد هشام، ثم بعد ذلك خرج إلى العراق قاصداً بغداد حيث مرقد معشوقه وحبيبه الشيخ عبد القادر الجيلاني ومكث هناك ستة أشهر وهو يجاهد نفسه في الحضرة القادرية المباركة، ثم رجع منها، وهكذا قضى حياته منذ عام 1960 حتى 1980 كلها قضاها مجاهداً نفسه في سبيل الله يسعى في تزكيتها وفي إرضاء ربه سبحانه وتعالى، وأكرمه الله سبحانه بأن دخل في المسجد النبوي خلوة داخل غرفة في جدار المسجد دامت ثمانية أشهر كان ورده فيها دلائل الخيرات، وكان يقرأه اثنا عشر مرة في اليوم، وهكذا كان كلما خرج من خلوة حتى يدخل الثانية، وكان إذا دخل الخلوة الأربعينية كان غذاؤه فيها كلها عشر تمرات فقط، وحدثنا إحدى المرات أنه ذهب إلى الصحراء قاصداً الانقطاع إلى الله في خلوة وأخذ معه رغيفاً واحداً وعاد بعد سبعين يوماً ومعه نصف الرغيف، ودخل بقية خلواته في رحاب التكية القادرية بعامودا، ودخل بعضها في قرية حطين التي كان يدخل بها والده الشيخ أحمد خلواته، وبقي يأخذ نفسه بالمجاهدة حتى فتح الله تعالى عليه بالفتوحات العظيمة، وأمده بالبركات والأسرار الشريفة، وبقي على هذه الحال من مجاهدة النفس حتى جلس على سجادة الإرشاد في الطريقة القادرية وأخذ الإجازة من أخيه وشيخه الشيخ محمد القادري خطية بيده وأكرمه الله وحج بيت الله الحرام ثمانية عشرة مرة، وكان قبل عام 1986 كلما يذهب إلى الحج يذهب في رمضان ويمكث في الحجاز حتى موسم الحج، ومنذ عام 1980 بدأ بنشر الطريقة القادرية وتصدر للإرشاد حتى أصبح من أعلام المرشدين الكاملين في زمانه، وقد أيده الله وأنعم عليه بإظهار الخوارق على يده، مؤيدة لنشر طريقته.

تصدره للإرشاد والسجادة القادرية:

لقد ذكرنا في ترجمة الشيخ محمد القادري الحسيني1كيف أن الله سبحانه وتعالى ابتلاه بالمرض منذ عام 1956 ولازمه حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى في عام 2003، ومن أَجْل هذا سلم زمام الطريق ومشيخة السجادة القادرية لأخيه الشيخ عبيد الله القادري، وسلمه الإجازة القادرية كما أوصى بها والده، فتصدر بعده لسجادة الطريقة والإرشاد وتربية المريدين في عام 1980متابعاً مسيرة والده الشيخ أحمد القادري وأخيه الشيخ سيد محمد القادري0، وكان في ذلك الوقت قد بلغ ستاً وثلاثين عاماً. وبقيت التكية مفتوحة للقاصدين من كل مكان، وبدأ السالكون يقصدونه من كل مكان لتلقي الأوراد والأذكار وممارسة المجاهدات والخلوات، وكان منهجه كله مبنياً على المجاهدة قال تعالى:]وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[.

وهكذا تصدر لخدمة الطريقة القادرية والإشراف عليها بدلاً من الشيخ محمد القادري رحمه الله تعالى، فكان نعم المرشد ونعم الدليل إلى الله، وراح ينشر الطريق في أنحاء سورية كلها وظهر على كل أقرانه وذاع صيته بين الناس فصار كالعلم في الطريقة القادرية، وكان لا ينقطع عن زيارة الحبيب الأعظم r وزيارة سيدي الشيخ عبد القادر الجيلاني t بين الحين والآخر.

وكان1 يجاهد نفسه أثناء الخلوات فلا ينام إلا غلبة ولا يأكل إلا فاقة ويسهر الليالي الطوال في المجاهدة والعبادة، وكان يربط شعره بحبل ويربطه بالسقف حتى ينبهه إذا نام دون إرادته، هذا ما علمناه عنه وما خفي عنا أكثر بكثير من هذا.

وكان1 يدرب أبناءه على هذا المنهج وكذلك كل السالكين عنده ويكاد يكون الوحيد من مشايخ الطرق في سوريا من يحافظ على الخلوات والمجاهدات والرياضات التي هي أصل الطريق .

صفاته الخَلْقِية والخُلُقِية

أما صفاته حفظه الله :

فهو رجل طويل القامة، عريض المنكبين، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، وجهه أبيض مشرب بالحمرة، شديد سواد الشعر وشعره طويل إلى منكبيه، والابتسامة لا تفارق ثغره أبداً، بشوش الوجه دائماً، عيناه دائماً ترقرق بالعبرات، صوته جميل ذو هيبة وسمت حسن.

وأما أخلاقه فقد كان يردد دائماً: (التصوف كله أخلاق فمن زاد عليك في الأخلاق زاد عليك بالتصوف)، فكانت أخلاقه محمدية، ذو حلم عظيم، وصبر جميل، يزينه التواضع للصغير والكبير، للغني والفقير، للرعية والأمير، شديد تحمل الأذى، كريم صاحب جود كبير، تكيته مفتوحة ليل نهار، تستقبل القاصيَ والداني، من يعرفه ومن لا يعرفه، شديد الرحمة، وأخلاقه هذه مع أهله ومع الناس جميعاً، يحب العفو والسماحة ويخدم الأمة ويساعد في قضاء حوائج الناس، ولا يتأخر عن مساعدة أحد، ووالله ما رأيت أحداً بمثل هذه الأخلاق أسأل الله أنْ يكرمنا بها، ومهما طال مجلسه لا تشعر بالملل أبداً، قال عليه الصلاة والسلام: إنَّ مِنْ أحَبِّكُمْ إليَّ وأقْرَبِكُمْ مِنّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ أحاسِنُكُمْ أخْلاقاً([2])،وقال: إنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقاً([3])، وكان يقول ما رأيت أحداً من فساق المسلمين إلا وحسبته خيراً مني فإيمانه ظاهر وفسقه باطن والله غفار ستار، وخدمة المريدين مقدمة على خدمة بيته وأهله، وهو بسيط متواضع مع الصغير والكبير، ومع هذا كله فإن له هيبة تجدها وتشعر بها في مجلسه، ولو لم تر إلا أخلاقه لكفتك لاتخاذه مرشداً يعلمك حسن الخلق، ووالله لا أريد المبالغة فلست ممن يحبون أن يمدحوا أشياخهم ، لكن هذا ما يصفه به كل من عرفه. وكان1 إذا جلس تجده يشغل مجلسه بالذكر وإلا فيشغل المجلس بكلامه بالتصوف والإرشاد حتى لا يتخلل المجلس لغواً ولا لهواً وكان يتحلى بالسماحة والعفو فكم من الناس كان يغتابه ويسبه ويؤذيه وكان يقول: يا بني ادع لهم بالصلاح ولا تدع عليهم وسامحهم وسلم الأمر إلى الله.

وكان1 يتميز بالصبر وتحمل الأذى والصبر على الشدائد ويخالط سائر طبقات الناس الفقير والغني والكبير والصغير الكل يجلس عنده في التكية سواء وكان ملجأ للناس لقضاء حوائجهم ولا يرد أحداً عن بابه إن استطاع ساعده وإن لم يستطع أكرمه وأنعم عليه بنعم الله ولم يكسر قلبه وأخذ بيده وكان حسن المعاشرة والمعاملة وكان متميزاً بتواضعه لله ولعباده وكان يطلب الدعاء من كل من يراه ويكلمه ويجلس معه. وكان1 كثيراً مما يعد الطعام لضيوفه وتلاميذه بيده وقد رأيت هذا بنفسي وحدث أمامي وكان لا يحب أن يخرج أحد من عنده إلا وهو مسرور وراضٍ، وكان يقول يا بني تواضع لله يرفعك الله ولن يرفعك الله حتى ترى كل الناس خيراً منك وإنك أدناهم وقد طلب منه الناس أن يطرد أحد الناس من مجلسه بحجة أنه في حضرة الشيخ يتظاهر بالصلاح وإذا خرج من عند الشيخ كانت أعماله فسقية فكان جواب الشيخ: والله ما رأيت أحداً من فساق المسلمين إلا ورأيته أحسن مني فإيمانه ثابت وفسقه خفي والله تعالى غفار ستار. وكان 1 لا يرد دعوة لأحد غنياً كان أو فقيراً فهذه جملة من أخلاق الشيخ رضي الله عنه ولو ذكرنا أخلاقه كاملة لما استطعنا الإحاطة بها لأن الأولياء الكمل لا يستطيع أي إنسان أن يحيط بأحوالهم وأخلاقهم وقد ميز الله الشيخ رضي الله عنه بالكرم فكان كريما سخياً أعانه الله فقد أعد مكاناً لاستقبال ضيوفه وأعد لهم كل ما يلزمهم فكان يقدم لهم وجبات الطعام مهما كان عددهم ولا يبالي بما ينفق على الضيوف وما رأيت يوماً التكية خاوية من الضيوف وتمر أيام يزيد فيها عدد الضيوف عن خمسة آلاف ويقدم لهم كل ما يحتاجونه، وذلك في كل عام في مولد الشيخ عبد القادر وأحيانا يصل إلى خمسة عشر ألفاً، وفي رمضان كان يعتكف عنده في كل عام ما يقارب مائة رجل وأكثر، فكرمه ليس له حدود فقد أعطاه الله فأنفق مما أعطاه، فنسأل الله أن يزيده وينفعنا ببركته.

ومن عجائب ما رأيت من تواضعه أنه خرج ذات يوم من التكية بعد انتهاء مجلس الذكر قاصداً منزله، وكانت ليلة ماطرة، فأسرع أحد المريدين وقدم الحذاء للشيخ وقبل أن يضعه على الأرض قبله، فنظر الشيخ له وقال: لما فعلت هذا يا ولدي؟ فقال: الله يجعلني ذرة بنعلكم يا سيدي، فتمعر وجه الشيخ وبدأ الغضب يظهر عليه! فقال: لا أريدك ذرة بنعلي بل أريدك رجلاً ينتفع بك المسلمون واعلم أن هذا لا يرضيني ولا يرضي الله ولا رسوله r، وإذا بالشيخ يخرج حافياً وهو يلبس جوارباً بيضاء والأرض يملأها الماء والطين ما بين التكية ومنزله فلحقنا به نريد منه لبس الحذاء، فقال كلمة عظيمة: والله لا ألبس حذاء يقبله الناس فمن أنا ليُقَبَّلَ حذائي، وخرج لبيته حافياً، فلله دره من رجل نفعنا الله تعالى ببركته.

ومن كريم خلقه وجميل تواضعه أنه دخل ذات يومٍ التكية ووجد ابنه يطلب من بعض السالكين الخروج للعمل ببعض الأعمال في تنظيف وصيانة التكية، والناس تتقاعس عن ذلك لأن العمل كثير ومرهق! فغضب ابن الشيخ وصار يصرخ بالناس، وإذا بالشيخ يدخل ويسمع ما يحدث، فوالله ما كان منه إلا أن وبخ ولده على كلامه وقسوته مع السالكين، وقال له: إن لم تستطع تحمل الناس والقيام بخدمتهم فاذهب إلى بيتك ولا تأتِ إلى التكية فهذه التكية جعلت لخدمة الناس، فاعتذر الشيخ من الناس وخرج إلى ساحة التكية وكنت ممن تبعه وكنت يومها من القائمين على الخدمة بالتكية، وجاء إلى مكان العمل وسألني عن العمل المطلوب فأخبرته وشمر عن يديه وبدأ يعمل بنفسه فأسرعت للتكية وأخبرت الناس بما رأيت، وكان العمل ما بين بناء وهدم وتنظيف وإخراج بقايا، وبدأ الشيخ يعمل بنفسه! وأقسم بالله خرج الناس كلهم يركضون لما علموا بهذا، والكل أسرع للعمل بهمة وفرح ونشاط ومحبة فوقف الشيخ وأمرهم بالرجوع للتكية لينتظروا الغداء، ولكن الجميع رفض وأصروا على العمل مع الشيخ، فوزع عليهم الأعمال وكان من بين الأعمال تنظيف وتعزيل دورات المياه، فلم يعط الشيخ هذه المهمة لأحد، فإذا به يبدأ بنفسه بالعمل بها، فَهَمَّ البعض لمنعه فأبى وأصر على تنظيفها بنفسه، وسمح لي يومها بمشاركته بتنظيف دورات المياه، وماهي إلا ساعة حتى أنجز عمل يستغرق عشر ساعات، فكان ذلك درساً عظيماً لولده وللسالكين.

منهجه في تربية المريدين:

لقد سخر الشيخ عبيد الله القادري1 حياته في خدمة طريق التصوف على منهج الطريقة القادرية العلية وتربية المريدين وتربية نفوسهم وتزكيتها، حيث كان يعلمهم الأدب مع الله سبحانه وتعالى ثم مع الناس، ويعلمهم مكارم الأخلاق وأنَّ العبد مهما تقرب إلى الله بعبادته وطاعته إذا لم يكن عنده أخلاق فلن يصل إلى مقام العبودية الصحيح، وكان1 ينهج منهج الشيخ عبد القادر الجيلانيt، ومنهج الشيخ نور الدين البريفكاني القادري1، ومنهج والده الشيخ أحمد القادري1، وذلك بإعطاء الأوراد وإدخال المريد الخلوة ليُطهر قلبه عن الشواغل التي تقطعه عن الله من حب المال والجاه وغير ذلك، وأهم الخلوات التي كان يهتم بها خلوة الأنفس السبع التي تقسم إلى سبع مراحل، وكل مرحلة من هذه المراحل لمجاهدة نفسٍ من هذه الأنفس السبع، فكان المريد عندما يدخل خلوة الأنفس السبع لا يخرج منها حتى ينهيَ المراحل السبعة وذلك لينتهيَ من شرور نفسه ويزكيَها استجابة لقوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7)فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8)قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)، وغيرها من الخلوات المباركة التي تزكي النفس، وكان1: يعلم تلامذته بأن يتمسكوا بالكتاب والسنة، وأن العبد لا يصل إلى الله إذا لم يكن مطبقاً لأوامر الله سبحانه وتعالى وأوامر رسوله r، وكان له من التلاميذ والمريدين الكثير في كل المدن والمحافظات السورية، وكذلك في كافة البلاد العربية والإسلامية، وطريقته تنتشر في كل هذه البلدان ولله الحمد، ومن أبرز مظاهر منهج الشيخ في التربية أنه لا يدع المريد على ورد واحد بل يجعله ينتقل من ورد لآخر من أجل تزكية النفس وإصلاحها واعتماده في السير والسلوك على الخلوات والرياضات والمجاهدات، وكان1: عالماً بعلوم الشريعة عالماَ بما علم من الدين بالضرورة ومتبحراً في العلم الشرعي الذي يمكنه من إرشاد الناس وتزكيتهم بإذن الله تعالى، وكان متبحراً في علم التصوف والسلوك والتزكية والأخلاق، وأساس اعتماده في السلوك على الخلوات والمجاهدات والأذكار والاعتكاف وتخرج من عنده الكثير من المريدين الذين ساروا إلى الله وظهرت عليهم علامات الصلاح وله خلفاء ومريدون كثر.

حال الشيخ مع السالكين :

قال تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، انطلاقاً من هذه الآية الكريمة كانت معاملة الشيخ مع تلاميذه وعليها يرتكز في منهجه مع الناس والسالكين.

وكان يقول1: لكل زمن رجال ولو أني عاملتكم كما كان القوم 4يعاملون المريد ويلزمونه بالأدب لما بقي أحدٌ منكم عندي، ولما احتملتم تطبيق آداب التصوف، وكان دائماً يعيد علينا عبارة الإمام الرفاعي الكبير t التي يقول فيها: يأكلون بالأرطال ويشربون بالأسطال وينامون الليل مهما طال ويطلبون مقامات الرجال والله إن هذا محال.

وكان1: يعامل السالكين بكل بساطة ولا يشدد عليهم بالآداب إلا بما تحتمل طاقة كل سالك، ويقول نحن نُسَلِّكُ كل من يطلب السلوك ولا نرد أحداً عن بابنا عسى الله أن يهديَ قلبه، فإن التزم بفرائضه فذلك خير وإن زاد فذلك خير له، فإن بركة البيعة القادرية لا بد أن تؤثر فيه بإذن الله تعالى.

وكان يقول1: إنَّ الخلفاء المجازين في الطريقة وأفضل السالكين اليوم! لو أردنا أن نعتبرهم مريدين حقيقيين لما استطعنا ذلك، فهم لم يبلغوا رتبة المريد في الزمن الماضي، لكننا على خيرٍ والحمد لله وأفضل من غيرنا بكثير.

وكان1يتبع أسلوباً حكيماً في شَدِّ همة السالكين، فكان إذا جاءه المريد وهو مقصرٌ في أوراده مبتعدٌ عن الطريق قليلاً قربه إليه وبين له أنه جيد الأعمال حسن الأخلاق ومن أهل الصلاح، فتجد المريد يخجل من نفسه وتقوى همته على الطاعة، أما المريدين الملتزمين فتجده لا يهتم بهم وكأنهم غير موجودين، حرصاً على نفوسهم من العجب والغرور.

وكان يقول1: المرشد الكامل لا يطرد أحداً من مريديه من الطريقة أبداً لأن المريد مثله كمثل الابن فإن عق الولد أباه يبقى ابنه لكنه عاق له ومهما فعل يبقى ابنه ولا يستطيع أن ينكره، وكذلك المرشد الكامل مهما شَذَّ المريد فإنه لا يطرده لأنه ابنه ولو طرده لربما يتقلب من حاله الذي هو عليه إلى أسوء الأحوال من المعاصي والخروج عن طريق الله سبحانه وتعالى، ولو أن أحداً من خلفائي طرد مريداً من الطريقة لغضبت عليه ولنبهته عن هذا لأنه ليس من علامات المرشد الكامل طرد مريده.

وكان يقول1: إن كل مرشد وشيخ طريقة يحب أن يكون تلاميذه متفوقين وإني أتمنى أن تكونوا كلكم أقطاباً لكن ليس بيدي، فعليكم أن تعملوا وتجتهدوا وتجاهدوا وتكثروا من الأعمال التي تقربكم إلى الله مع الإخلاص فإن الله لا يرضى إلا ما خلص له.

وكان1عندما يجلس مع تلاميذه تراه كالأب في أسرته لا يجد المريد حواجز بينه وبين الشيخ إذا أراد منه شيئاً أو سؤالاً أو حاجة ما.

وكان يقول1: أنا بابكم إلى الله فألزموا الأدب معي، فالتصوف آداب وكان يتجاوز عن عثرات المسلمين والمريدين، ويدعوهم إلى الله بحكمة وتدرج، وكان يُؤَمِّنُ التلاميذ عند زيارتهم له بكل ما يريحهم ويناسبهم في جلوسهم عنده، وكان بين الحين والآخر يزور بعض زواياه في مختلف البلدان حتى يشعرهم بمحبته لهم ومكانتهم عنده فتقوى هممهم للطاعة والعبادة، وكان في كل بلد من البلدان تنتشر فيها طريقته ويزداد عدد السالكين فيه يؤمر عليهم واحداً منهم يكون غالباً هو أصلحهم وأقربهم إلى الله، وربما يعطيه الإجازة حتى يكون لهم معلماً ومرشداً في بلده، حتى لا يشعروا بابتعاد الشيخ وأنَّ معهم دائماً من ينوب عنه.

وكان يقول1: على كل مريد سالك ألاَّ يفارق شيخه حتى تنفتح عين قلبه وعليه ألاَّ ينقطع عن شيخه.

وكان1 شديد الصبر على تلاميذه فكانوا غالباً ما يسيئون الأدب معه لكن لا يؤاخذهم ويدعو لهم بالصلاح، وحدثت ذات مرة حادثة حدثت أمامي وهي أنَّ أحد خلفائه وهو من رأس العين غضب من الشيخ لأنه جاء يريد الشيخ فسأل ابنه الشيخ محمد فقال له: إنَّ الشيخ ليس في البيت، فكذبه وقال: بل هو في البيت، ولو قُطِعَتْ رقبتي بعد الآن لن أدخل هذه التكية، فذهب إلى بلدته فما وصلها حتى عاد به أهله وقد أصيب بالفالج فرقاه وسامحه على ما فعل فشفي والحمد لله رب العالمين.

من أقوال الشيخ ووصاياه:

وهذه مجموعة من أهم أقوال وإرشادات ووصايا الشيخ عبيد الله القادري التي سمعتها منه ووجهها لي ولغيري من المريدين أنقل لكم بعضاً منها:

كان يقول1: الدعاة إلى الله ثلاثة: أهل المقال، وأهل الحال، وأهل الحال والمقال معاً؟ وأهل الحال هم أعلى مقاماً من أهل المقال، وأهل الحال والمقال هم أعلى من أهل الحال، فأهل المقال لا ينجح إرشادهم إلا بالمقال، وأهل الحال لا ينجح إرشادهم إلا بالحال، وأكملهم وأنجحهم إرشاداً هم أهل الحال والمقال.

وكان يقول1: يا بني لا تدعُ على من آذاك وظلمك، لكن ادع الله أن يصلحه ويهديَه، واصبر إن الله مع الصابرين، ولا تجعل عبادتك من أجل الفتح وأغراض أخرى، بل اجعلها لله فيعطيَك كل شيء.

وكان يقول1: يا بني إياك أن ترى نفسك أنك خير من أحد من الناس مهما غرقوا بالمعاصي، ولا تتكبر على أحد مهما كان ذليلاً فقيراً، فمن تواضع لله رفعه.

وكان يقول1: يا بني ليس المقصود من طريقتنا الكرامات وخوارق العادات، ولا أن نصبح أولياء! ولكن المقصود من طريقتنا ومدارها كله يدور حول إصلاح النفوس وتزكيتها وتطهيرها من الأمراض والصفات الذميمة وتحليتها بالصفات الحسنة المحمدية.

وكان يقول1: يا بني ليس البطل عندنا من يكثر الخلوات والمجاهدات! لكن البطل هو الذي يدعو الناس إلى الله ويهديهم إلى طريق الخير.

وكان يقول1: يا بني لا تكثر من الكلام عن نفسك وما يحدث معك، وتقول: رأيت كذا وفعلت كذا وحدث معي كذا، فإن في ذلك الهلاك والدمار والخسران، لكن عندما تصل إلى شاطئ الأمان فتحدث بما شئت من نعم الله عليك تحدثاً بنعمة الله لا تفاخراً ولا عجباً، واعلم أن طريق القوم مبنيٌ على اتهام النفس في كل الأحوال.

وكان يقول1: يا بني لا تدع نفَسَاً يخرج منك إلا وفيه لا إله إلا الله، وكان يردد دائماً لكل من يسلك الطريق: طريقتنا مبنية على الكتاب والسنة من خالفهما ليس منا، وكان يقول دائماً اطلبوا في سيركم الله ولا تطلبوا سواه، فالأحوال تزول والكرامات تزول والمنامات تزول ولكن الله لا يزول.

وكان يقول1: يا بني احذر أمرين اثنين هما أخطر شيء على المريد: الأول: حب النساء، والثاني: أن ترى أن أعمالك إنما هي بقوتك واجتهادك، بل هي بمعونة الله وبحوله وقوته، فأنت لا حول لك ولا قوة! لولا الله لما كنت مسلماً ولولا الله لما كنت مؤمناً ولولا الله لما عبدت الله.

وكان يقول1: يا بني إياك أن ترى أن أعمالك وعبادتك هي بقوتك واجتهادك، وتظن أنك بجهدك أديتها، بل هي بمعونة الله تعالى وتوفيقه لك وبحوله وقوته لا بحولك وقوتك، فأنت لا حول لك ولا قوة، واعلم أنه لولا الله لما كنت مسلماً ولولا الله لما كنت مؤمناً، ولولا الله لما عبدت الله تعالى، وانظر إلى العصاة من خلق الله عز وجل وأشفق عليهم وادعُ لهم بالهداية، ثم احمدِ الله عز وجل الذي وفقك للخير فهذا أدعى للقبول، فكم من عابد سقط من عين الله تعالى لأنه ركن إلى نفسه ورأى أعماله أنها بقوته.

وكان يقول1: يا بني اعلم أنَّ كل المشايخ والصالحين هم إخوتنا ولا فرق بين طريق وأخرى، فكلهم من رسول الله ملتمس، واحذر أن تفرق بين الطرق وتسيئ لشيخ من مشايخها فإن هذا سم قاتل، واعلم أن كل الشيوخ أعمامك وأنا والدك، فإن كنت تحبني وجب عليك التأدب مع أعمامك والزم الأدب حيثما كنت ومع من كنت، ولتكن صورة عن طريقتك حيثما كنت واحذر من الإساءة لنا بإساءتك الأدب مع رجال الله الصالحين.

كراماته وسلوكي بين يديه:

قال سبحانه وتعالى: ]أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[([4])، وجاء في الحديث القدسي: مَنْ عَادَى لِي وَلِيَّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ! يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ([5]). ولقد مَنَّ الله على شيخنا 1فكان منذ صغره يأخذ نفسه بالمجاهدة، وبالمجاهدة كان يترقى من مقام إلى آخر في درجات الولاية وأظهر الله على يده خوارق العادات إثباتاً لولايته وتأييداً لدعوته إلى الله تعالى، وسبباً لاهتداء الناس على يده ودخولهم في الطريق، ولقد رأيت من كراماته الكثير والحمد لله عز وجل، وسمعت من أبنائه، وسمعت من الكثير ممن يصحبه، ولكني لن أذكر إلا ما ثبتت صحته. ومن الجدير بالذكر أني أفردت الشيخ 1 في مؤلفٍ خاصٍ وكتبت بخط يدي عن ترجمته وسيرته قرابة ستمائة صفحة، ولكن الشيخ لم يأذن لي بنشرها مادام على قيد الحياة، ولكن بعد جهدٍ جهيدٍ، ومحاولات كثيرة حصلت والحمد لله على الإذن منه بنشر بعض ما أكرمني الله عز وجل برؤيته منه في هذا الكتاب، ليطلع عليها أبناؤه ومريدوه لعلها تزيدهم حباً وإيماناً، وسنذكر من هذه الخوارق ما رأيناه بأعيننا وما سمعناه من حضرة الشيخ 1 وما سمعناه من بعض الأخوة الثقات، ويجب أن يعلم الجميع أنَّ الكرامة في ذاتها ليست مقياساً لمقام وقدر الرجال فكم من أولياء كبار أخفى الله كراماتهم، بينما أظهرها على من هم أدنى رتبة منهم، وأكبر كرامة له هي حسن خلقه الذي تجسد في سيرته، والتي أعتبرها أكبر الكرامات وسأختم بها الحديث عن كراماته فنقول وبالله التوفيق:

وكان الشيخ1 صاحب كرامات كثيرة وأحوال عجيبة ومكاشفات، وترى العجب من أحواله في كل وقت وحين لدرجة أني احترت عن ماذا أحدثكم، وبعد تفكير قررت أن أحدثكم عن سلوكي على يديه وما حدث معي لأن فيه العبرة والموعظة والكرامات. وفي عام 1991 التحقت بالدراسة الشرعية في محافظة الحسكة بالقرب من بلدة عامودا التي يقيم فيها الشيخ، وكانت يومها بداية رحلتي في البحث عن الشيخ المرشد الذي أسلك على يديه الطريق إلى الله تعالى، وبعد الاطلاع على أبناء الطرق الصوفية وأحوالهم، تشوقت وتلهفت لسلوك الطريق على يد أحد الشيوخ الذين أسمع بهم ولهم شهرة بين الناس، فتارة كان يميل قلبي للشيخ خلف الشوعة القادري الرفاعي الذي يسكن في الحوايج في محافظة الرقة، وتارة إلى الشيخ زكريا العلي القادري الذي يقيم في قرية كفرغان في محافظة حلب، وتارة إلى مفتي الحسكة الشيخ إبراهيم محمد حسن النقشبندي مدير معهدنا الشرعي، وتارة للشيخ عبد الله السعيد الرفاعي من قرية كفر زيتا في محافظة حماة، وتارة للشيخ عز الدين الخزنوي النقشبندي في مدينة القامشلي، وتارة للشيخ اسماعيل أبي النصر النقشبندي في محافظة حلب، وتارة للشيخ عبد القادر عيسى الشاذلي الذي توفي في ذلك العام، وتارة للشيخ حسين الموسى الرفاعي وأخيه الشيخ محمد الموسى أبي كلال النقشبندي من بلدة حلفايا في محافظة حماة، ولكن لم توافق المشيئة الربانية بالسلوك على يد أي شيخ من هؤلاء الذي عاصرتهم، وتستمر رحلتي بالبحث عن الشيخ المرشد المربي.

وفي يوم من الأيام زارني أحد أصدقاء والدي اسمه السيد محمد عيد، وكنت أعرفه سابقاً لكن تفاجأت بتغيير كبير عليه حيث أرخى لحيته وقد حمل سبحة بيده ورأيته جالساً بهيبةٍ ووقارٍ وذاكراً لله ولم يكن على هذه الهيئة سابقاً فجلست معه ومع والدي، وكنت أتمعن به كثيراً فشعر بي وأنا أراقبه، ولما هَمَّ بالخروج لحقت به وتمشيت معه، وسألته عن سبب تغيره بهذا الشكل؟ فحدثني عن التحاقه بالشيخ عبيد الله القادري شيخ الطريقة القادرية العلية، فدهشت من حديثه عنه وطار قلبي شوقاً للقاء هذا الرجل، فدعاني لحضور مجلس الذكر في زاوية تتبع للشيخ في مدينتنا، فذهبت لأحضر مجلس الذكر عندهم فراودني الحاضرون لسلوك الطريقة من وكيل الشيخ السيد عبود الشوك، وكنت صغيراً فسلكت عن غير رضىً لكن انقياداً تحت ضغط شديد منهم، وكنت أتشوَّق للقاء الشيخ نفسه، فلما رجعت إلى البيت وأويت إلى فراشي سألت ربي وقلت: يا ربُّ إن كان الشيخ عبيد الله من الصالحين وله قدم في الولاية فارني إياه في منامي يوقظني على صلاة الفجر، فإذا بي في منامي أرى شيخاً واقفاً وأنا أنظر إليه من بعيد، وأجلس بجانب شيخ آخر عرفت فيما بعد أنه الشيخ جنيد ابنه، وكنت أسأله من ذاك الشيخ فقال ذاك الشيخ عبيد الله القادري اذهب وسلم عليه فلما مشيت إليه وجدت نفسي أقف في فراشي وأمشي، والفجر يؤذن فانشرح صدري لحضرة الشيخ وعرفت أن له قدماً في الولاية وأنه من رجال الله الصالحين.

فالتزمت بأوراد طريقته وآدابها وبقيت على هذه الحال من شوق وعشق لهذا الشيخ دون أن أراه، وبقيت ملتزماً بطريقته ستة أشهر ولم أرَ الشيخ ولم أجتمع به، فصارت نفسي تراودني لتغيير الطريق والسلوك على يد شيخ آخر، فذهبت إلى حماة قاصداً أحد شيوخ الطريقة الرفاعية، وجلست عنده ما يقارب الساعتين والشيخ يحدثني عن الطريق، وكان صاحب حال شديد، وكان يجذبني بقوة، فأردت أن أطلب السلوك على يده الطريقة فصارت صورة الشيخ عبيد الله أمامي وكأنه يمنعني من ذلك، وكلما هممت بالقيام يظهر الشيخ عبيد الله بيني وبين ذلك الشيخ وينظر إليَّ بغضب شديد، وفي المرة الثالثة هممت بالقيام إلى الشيخ فظهر الشيخ عبيد الله امامي ونظر الي بشدة! ثم نظر إلى ذلك الشيخ فإذا بالشيخ يلتفت عني ويحدث الحاضرين، فعلمت أن الأمر فيه سر عجيب؟ وفعلاً كنت أحس بداخلي شيئاً يمنعني من ذلك فغيرت رأيي. وبعد أيام قليلة رأيت رؤيا في منامي رأيت غار حراء الذي كان يتعبد فيه r وهو ديوان الصالحين مكان اجتماع الأولياء قدست أسرارهم الشريفة، فرأيت جمعاً من الشيوخ يجلسون فيه، وكان متميزاً منهم سيدي الشيخ عبيد الله القادري، فقد رأيته جالساً أمام الجميع على مكان مرتفع عن أماكن جلوسهم والديوان يمتلئ نوراً من نوره ودخل شخص كنت قد تعرفت عليه مجدداً وهو الأخ حسن خطاب من تلاميذ الشيخ عبد الله السعيد من معرة النعمان من قرية جرجناز، دخل يسأل الحاضرين عني؟ وكان من هؤلاء الحاضرين الشيخ عبد الله السعيد والشيخ خلف الشوعة والشيخ زكريا، فسألهم وسأل شيخه فقال له يا بني: اسأل الشيخ عبيد الله القادري فإنه شيخه وشيخنا كلنا، فعندها سأله فقال الشيخ إنه من أبنائنا. فعرفت من هذه الرؤيا أن مشربي ومسلكي هو عند الشيخ عبيد الله القادري، فتبت إلى الله، فعرفت ألا ملجأ لي إلا إلى الشيخ 1،وفي اليوم الثاني رأيت نفسي في رؤيا أخرى أذهب إلى عامودا فسلكت ولما دخلت التكية القادرية وجدت الشيخ ينتظرني وقال لي: لو سافرت لكل شيوخ الدينا فمرجعك الي أنت ولدي وعندي وليس لشيخ آخر أن يأخذك، وأخذت البيعة والعهد منه في تلك الرؤيا، وبدأت أجهز نفسي للسفر إلى الشيخ ولكني كنت في حالة خوف وخجل منه كيف ذهبت لكل المشايخ وأنا على عهده، ومن شدة خوفي وخجلي لم أتجرأ على الذهاب، فأرسلت أحد إخوتي ورفيقي في السلوك وأحب أصدقائي في الحياة وهو محمد خلف الجمعة وكان رفيقي في السلوك والخلوات إلى عامودا لينظر إن كان الشيخ هناك أم لا، ولما وصل عامودا، وكنا ندرس في المدرسة الشرعية، ولما دخل محمداً للتكية وجد الشيخ جالساً في مجلسه فلما أقبل ليسلم عليه خاطبه الشيخ قائلاً أهلا بمحمد دون أن يتكلم؟ وكان أول لقاء له بالشيخ، وكان ذلك مفاجأة كبيرة كيف عرف الشيخ اسمه! وخاطبه قائلاً: لا تجلس ارجع فوراً الى الحسكة وأحضر الشيخ مخلف وتعالا إلى التكية، وبعد ساعتين تفاجأت بعودة محمد وكان في السنة الثالثة الاعدادية يبلغ من العمر 15 سنة، وكنت في السنة الأولى الثانوية وعمري 16 سنة، فرأيت محمد بحالة غريبة كان مذهولاً ومندهشاً لدرجة عجيبة فقال لي: الشيخ أرسلني إليك وأخبرني كيف أن الشيخ عرف اسمه واسمي قبل أن يتكلم؟ وهنا أصابتني حالة خوف وهلع غريبة لأني خفت من مواجهة الشيخ فيسألني عن جولتي على الشيوخ، فاستجبت وقمت وتجهزت وذهبنا للشيخ، ولما دخلنا وكانت صلاة المغرب قد انتهت، وكان الشيخ يقرأ أوراده بعد الصلاة فانتظرنا حتى انتهى وتقدمت وسلمت عليه وأجلسنا بجانبه، وبعد قليل أمر الشيخ لنا بطعام العشاء ولما انتهينا قلت لمحمد تعال لنطلب من الشيخ العهد والبيعة، وقبل أن نتكلم نادانا الشيخ وأعطانا البيعة وأدخلنا للخلوة لمدة ثلاثة أيام، وكانت خلوة التوحيد بذكر لا إله إلا الله، فكانت خلوة عظيمة فتح الله علينا بكل خير فيها، ثم خرجنا منها ورجعنا للدراسة، وبدأت بالسير والسلوك في الطريق إلى الله عز وجل، ووجدت الخير الكثير على يده والحمد لله، وتغير حالي كل التغيير وبدأت بأخذ الإرشاد من الشيخ ومارست الرياضات ودخلت الخلوات والمجاهدات والأوراد والأذكار، فأحمد الله الذي أتى بي إلى حضرة الشيخ حفظه الله ونفعنا ببركته، وهذه الحادثة بنظري من أكبر كرامات الشيخ لأن فيها الخير للسالكين.

ومن جميل ما سمعته من أحد المشايخ الذين زاروا الشيخ وهو الشيخ إبراهيم الشواخ وكان مدرسي في المرحلة الإعدادية للتربية الاسلامية، حيث ذهب لزيارة الشيخ عبيد الله وبعد زيارته سألته عن رأيه بالشيخ عبيد الله فأجابني بكلام عظيم فقال: ما رأيت من كراماته ولا الخوارق شيئاً، لكن أشهد أمام الله تعالى أن هذه الأخلاق التي رأيتها فيه هي أكبر الكرامات بنظري فلقد رأيت الكثير من العلماء والعارفين لكني لم أرَ مثل هذا الرجل في أخلاقه وتعامله، وكذلك زاره شيخنا الدكتور عبد الكريم الحجو وهو أحد علماء منطقتنا يقيم بالإمارات، ولما رجع من زيارته اتصل بي فقال: سامحك الله تعالى يا شيخ مخلف، فاستغربت وقلت على ماذا شيخنا؟ فقال لأنك لم تعرفني بهذا الرجل قبل الآن، وكان سعيداً بزياته وقال: لم أرَ مثل كرم أخلاق هذا الرجل المبارك ولم أكن أتوقع أنه يوجد أمثاله في بلدنا. ومن الطرائف أن أحد الذين سلك علي يدي الطريقة كان متشدداً فلا يقبل بتقبيل أيدي المشايخ، فلما ذهبنا لزيارة الشيخ اشترط علي قبل السفر أنه لن يقبل يد الشيخ فقلت له: لا أحد يطلب منك هذا، وهذا ليس بواجب إنما أدب يتعلق بكل أنسان، وليس بهذه المسألة أي حرج شرعي، فلما وصلنا للشيخ جلسنا معه ورأى هذا الإنسان خلق الشيخ وتواضعه، وكاشفه الشيخ بمكاشفات عظيمة، تفاجأت به يمسك يد الشيخ ويقبلها بحرارة ويبكي، وما هي إلا دقائق من حديث الشيخ حتى انكب يقبل قدمي الشيخ ويبكي ويطلب السماح من الشيخ، فلما رجعنا بقي منقبضاً أياماً من تأثره بحال الشيخ عبيد الله القادري لما رآه من امتزاج ما بين تواضعه وحسن خلقه وكرامات ومكاشفات أكرمه الله بها.



1) بلدة صغيرة تتبع لمدينة القامشلي التابعة لمحافظة الحسكة السورية، تقع في أقصى الشمال الشرقي منها، على الحدود السورية-التركية، تبعد عن الحسكة مركز المحافظة 60 كم إلى الشمال، وهي بلدة ذات غالبية سكانية كردية، وفيها كثير من عائلات السادة الأشراف، من أبرزهم عائلة القادري آل الشيخ أحمد القادري، وعائلة القادري آل شيخ ظاهر القادري.

2) رواه الترمذي عن جابر.

3) رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو.

4) يونس الآية 62.

5) رواه البخاري عن أبي هريرة.

نقلاً عن كتاب

الدرر الجلية في أصول الطريقة القادرية العلية

للشيخ مخلف العلي الحذيفي القادري

حقوق النشر والطباعة محفوظة للمؤلف